فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يُسبّحُ لله ما في السموات وما فِي الأرض} أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا، وذلك بدلالتها على كمال عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك {لهُ الملك ولهُ الحمد} لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولي لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم {لهُ الملك} لأنه كالدليل لما بعده {وهُو على كُلّ شيء قدِيرٌ} لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض.
وقوله تعالى: {هُو الذي خلقكُمْ} إلخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى: {فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في {خلقكُمْ} من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا، وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى: {والله خلق كُلّ دابّةٍ مّن مّاء فمِنْهُمْ مّن يمْشِى على بطْنِهِ} [النور: 45] إلخ فيكون الكفر والايمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الأخبار الصحيحة كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح» الحديث.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق. وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى: {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ المصير} [التغابن: 3]» والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب.
واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقا بديعا حاويا لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للايمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له.
والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته.
ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته.
ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعوْن لِيكُون لهُمْ عدُوّا وحزنا} [القصص: 8] وهي كالفاء في قوله تعالى: {وجعلْنا في ذُرّيّتِهِما النبوة والكتاب فمِنْهُمْ مُّهْتدٍ وكثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} [الحديد: 26] ولم يجعلها للتفصيل كما قيل.
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الأنعام بالايمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى: {فمِنكُمْ} إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في {خلقكُمْ} تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: {كافِرٍ} دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والايمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: {حنِيفا فِطْرة الله التي فطر الناس عليْها} [الروم: 30] وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» والانصاف أن الآية تحتمل كلا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولا.
والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: {والله بِما تعْملُون بصِيرٌ} أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والايمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى: {والله خلقكُمْ وما تعْملُون} [الصافات: 96] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بك تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح {فمِنكُمْ كافِرٌ} أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: {فمِنكُمْ كافِرٌ} بالخلق وهم الدهرية {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} به، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة على ما استطهر بعض الأفاضل معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب، أو يقال: فيها رابط بالتأويل أي فمنكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو {فمِنكُمْ كافِرٌ} به {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} به، ويقدر الحذف تدريجا، وجوز أن يكون العطف على جملة {هُو الذي خلقكُمْ}.
{خلق السماوات والأرض بالحق} بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، قيل: وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة.
{وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا:
وتزعم أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الأكبر

ولعمري أن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو المعروف، وكل ما يشاهد من الصور الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعضها عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة من حده؛ ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء: شيآن لا غاية لهما: الجمال، والبيان.
وقرأ زيد بن علي، وأبو رزين {صُوركُمْ} بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور.
{وإِليْهِ المصير} في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلق له لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يُسبِّحُ لله ما فِي السّماواتِ وما فِي الْأرْضِ لهُ الْمُلْكُ ولهُ الْحمْدُ}
لما كان جُلّ ما اشتملت عليه هذه السورة إبطال إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإِشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتُدئت السورة بالإِعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص: إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإِيجاد والإِمداد كحاجة الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها.
وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنقائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإِنس والشياطين فإنهم حجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر.
فالمعنى: يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك.
وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويكون لهم تعليما وامتنانا ويفيد ثانيا بطريق الكناية تعريضا بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء.
وجيء بفعل التسبيح مضارعا للدلالة على تجدّد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة.
وجيء به في فواتح سُور: الحديد، والحشر، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان.
فحصل من هذا التفنن في فواتح هذه السورة كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة.
وإعادة {ما} الموصولة في قوله: {وما في الأرض} لقصد التوكيد اللفظي.
وجملة {له الملك} استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائص لا مقتضى لها إلا انفرادُه بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه.
وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح.
فتقديم المسند على المسند إليه لإِفادة تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوّه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك.
وجملة {وله الحمد} مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض، إذ التسبيح من الحمد، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإِدراك مختصا به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح.
فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث: «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده» وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضا مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر، قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة.
وجملة {وهو على كل شيء قدير} معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق.
وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين.
والاقتصار على ذكر وصف {قدير} هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولا لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر.
{هُو الّذِي خلقكُمْ فمِنْكُمْ كافِرٌ ومِنْكُمْ مُؤْمِنٌ والله بِما تعْملُون بصِيرٌ (2)}
هذا تقرير لما أفاده قوله: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} [التغابن: 1]، وتخلصٌ للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له.
ولذلك قدم {فمنكم كافر} على {ومنكم مؤمن} لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضا وتصريحا.
وأفاد تعريف الجزأين من جملة {هو الذي خلقكم} قصر صفة الخالقية على الله تعالى، وهو قصر حقيقي قصد به الإِشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فما كانت مستحقة لأن تعبد، لأن العبادة شكر.
قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17].
والخطاب في قوله: {خلقكم} لِجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، فإن الناس لا يعْدون هذين القسمين.
والفاء في {فمنكم كافر} عاطفة على جملة {هو الذي خلقكم} وليست عاطفة على فعل {خلقكم} وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب.
ونظيره قوله: {وجعلنا في ذريتهما النبوءة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] فجملة {فمنكم كافر} هي المقصود من التفريع، وهو تفريع في الحصول.
وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى في {ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل} [التغابن: 5].
وجملة {ومنكم مؤمن} تتميم وتنويه بشأن أهل الإِيمان ومضادّة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال.
وقوله: {والله بما تعملون بصير} تتميم واحتراس واستطراد، فهو تتميم لما يكمِّل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإِبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك.
ودون تفصيل هذا تطويل نخصهُ بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله.
ونقتصر هنا على أن نقول: خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القُدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقُدرة العبد (والخلاف في التعبير).
وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نُظُما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرها في طرائقها ولا يعطل عملها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كل لأن النظُم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سُمي بالكسب على أصولنا أو بالقدرة الحادثة على أصول المعتزلة، بل جعل بحكمته بين الخلْققِ والكسب حاجزا هو نظام تكوين الإِنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة، وقد أشار إلى هذا قوله: {والله بما تعملون بصير} أي هو بصير به من قبل أن تعملوه، وبعد أن عملتموه.
فالبصير: أريد به العالم عِلم انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شائع في القرآن لاسيما إذا أفردت صفة {بصير} بالذكر ولم تذكر معها صفة {سميع}.
واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة: العالم بالمرْئيات.
وقال بعضهم: هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها. والحق أنها استعمالات مختلفة. وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبارٍ من السنة فاجعلوه مِثالا يُحتدى، وقولوا هكذا هكذا.
وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين {وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم} [الزخرف: 20].
وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد.
وشمل قوله: {بما تعملون} أعمال القلوب كالإِيمان وهي المقصود ابتداء هنا.
{خلق السّماواتِ والْأرْض بِالْحقِّ وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ الْمصِيرُ (3)}
{خلق السماوات والأرض}.
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] يبيِّن أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
وقال: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] فمن حاد عن الإِيمان ومال إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة.
{والأرض}.
وقوله: {بالحق} معترض بين جملة {خلق السموات والأرض} وجملة {وصوّركم}.
وفي قوله: {بالحق} إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله: {بالحق} متعلق بفعل {خلق} تعلّق الملابسة المفاد بالباء، أي خلقا ملابسا للحق، والحق ضد الباطل، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} إلى قوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران: 190- 191].
والباطل مصْدقهُ هنالك هو العبث لقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 38، 39] فتعين أن مصْدق الحقّ في قوله: {خلق السموات والأرض بالحق} أنه ضد العبث والإِهمال.
والمراد بـ {خلق السموات والأرض} خلق ذواتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة.
وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضا لمعنى ملابسة خلقِها للحقّ، فكان نفي البعث للجزاء على أعمال المخلوقات موجبا اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال.
وتخلّف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيرا ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثيرٌ من أهل الصلاح غير لاقٍ جزاء على صلاحه.
وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعا بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته، فكان خلق كلا هذين الفريقين غير ملابس للحق، بالمعنى المراد.
ولزيادة الإِيقاظ لهذا الإِيمان عطف عليه قوله: {وإليه المصير} وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} الآية [التغابن: 7].
وفي قوله: {بالحق} رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد.
وفي قوله: {خلق السموات} إلى آخره إظهار أيضا لعظمة الله في ملكوته.
{بالحق وصوّركُمْ فأحْسن}.
إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإِجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خُلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإِنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يُناكد محاسن سائرها بخلاف محاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطيرِ والحيتان من مشي على أرْبع مع انتكاس الرأس غالبا، أو زحف، أو نقز في المشي في البعض.
ولا تعْتوِرُ الإِنسان نقائصُ في صورته إلا من عوارض تعرض في مدة تكوينه من صدمات لبطون الأمهات، أو علل تحلّ بهن، أو بالأجنة أو من عوارض تعرض له في مدة حياته فتشوه بعض محاسن الصور.
فلا يعد ذلك من أصل تصوير الإِنسان على أن ذلك مع ندرته لا يعد فظاعة ولكنه نقص نسبي في المحاسن فقد جمع بين الإِيماء إلى ما اقتضته الحكمة قد نبههم إلى ما اقتضاه الإِنعام.
وفيه إشارة إلى دليل إمكان البعث كما قال: {أفعيينا بالخلق الأول} [ق: 15]، وقال: {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} [يس: 81].
{وإِليْهِ الْمصِيرُ}.
عطف على جملة {وصوركم} لأن التصوير يقتضي الإِيجاد فأعقب بالتذكير بأن بعد هذا الإِيجادِ فناء ثم بعثا للجزاء.
و{المصير} مصدر ميمي لفعل صادر بمعنى رجع وانتهى، ولذلك يُعدّى بحرف الانتهاء، أي ومرجعكم إليه يعني بعد الموت وهو مصير الحشر للجزاء.
وتقديم {إليه} على {المصير} للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض.
وليس مرادا بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بلْه أن يدّعوا أنه مصير إلى غيره حتى يُردّ عليهم بالقصر.
وهذه الجملة أشد ارتباطا بجملة {خلق السموات والأرض بالحق} منها بجملة {وصوركم فأحسن صوركم} كما يظهر بالتأمل. اهـ.